تاريخ الصابئة ارسطوري
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
تاريخ الصابئة ارسطوري
في تاريخ الصّابئة الأسطوريّ
ترجمة وتقديم: آمنة الجبلاوي ومحمّد الحاج سالم
تقديم العمل وكاتبه: يعتبر كتاب «دراسات حول ديانة الصبّة: عقائدهم وعاداتهم» لنقولا السّيوفي المنشور باللّغة الفرنسيّة سنة 1880 في باريس، بغضّ النّظر عن قيمته التّاريخيّة، من أوّل الكتب التي تناولت بالوصف ديانة الصّابئة في العصر الحديث (أو «الصبّة» في اللّهجة العاميّة العراقيّة)، ويتميّز بالخصوص بتقديم نظرة جديدة وغريبة عن المسيحيّة ويسوع المسيح، إذ «تكمّل شخصيّة يوحنّا المعمدان (يحيى) شخصيّة يسوع مثلما تكمّل اليد اليمنى اليد اليسرى في خدمة الإنسان» كما يقول السّيوفي، إذ يرى أنّ الصّابئة «يعتقدون في عودة يسوع المسيح إلى الأرض قبل نهاية الزّمان لتوحيد جميع العقائد في عقيدة واحدة». كما رأى في بعض الممارسات الصّابئيّة شبها غريبا بالممارسات المسيحيّة جعله قريب الاعتقاد بأنّ الصّابئة قد تكون هي «الكنيسة الشّرقيّة المنسيّة»؛ فهي تمارس التّعميد بالماء، والتكفير عن الذّنب، والقربان المقدّس، وتسعى إلى الفضيلة وعمل الصالحات والنّكران التامّ للذات، وتراعي في الجملة أوامر الوصايا العشر. إلاّ أنّها «من ناحية أخرى، تعظّم الكواكب والأجرام السّماويّة وتعتبرها أرواحا مساعدة للإله الخالق». ويذكر السّيوفي أنّ يوم الأحد هو اليوم المقدّس عند الصّابئة، فهو اليوم المخصّص للصّلاة، والزّواج، وخاصّة للتّعميد الذي كان يتمّ في مياه الأنهار (الفرات ودجلة والأردن)، وهو ما لم يتغيّر منذ آلاف السّنين على غرار تعميد «يسوع» على يد «يوحنّا المعمدان» (يحيى).
ومن هنا، كان كتاب السّيوفي غريبا في بابه وفي منحاه ممّا يجعله جديرا بالاهتمام، فقد مكّننا من اكتشاف أقليّة لا نعرف عنها الكثير، ومهدّدة اليوم بالانقراض نتيجة ما يلقاه أتباعها من صعوبات كبيرة ومخاطر على حياتهم، فعددهم يتناقص باطرّاد منذ الغزو الأمريكيّ للعراق في مارس 2003، وهجرتهم تتزايد بشكل مفزع قد يؤول إلى اندثار واحدة من أقدم الدّيانات في العالم، ومن آخر «الطّوائف» العرفانيّة فيه. وقد تعايش الصابئة مع جميع مكوّنات المجتمع العراقي عبر تاريخه الطّويل الحافل، إذ لم يجاوز تعداد أتباعها - زمن السّيوفي - أربعة آلاف نسمة حسب ما يورده هو نفسه. ونحن إذ نقدّم الفصل الرّابع من الكتاب المذكور، إنّما نقدّم شهادة على أحوال العالم الإسلامي في أواخر القرن 19 وخاصة أحوال أقليّاته، وهو ما قد يخبرنا عن أحوال الأغلبية.
أمّا الكاتب فهو نقولا بن يوسف السّيوفي (1829 - 1901 م)، ولد في 12 أفريل/أبريل 1829 في دمشق من عائلة ترتقي بنسبها إلى العرب الغساسنة الذين حكموا جنوب الشّام قبل الفتح الإسلامي. ويذكر المؤرّخ والنسّابة الشّامي عيسى اسكندر المعلوف (1869-1956 م) في بحث له بأحد أعداد مجلّة المشرق البيروتيّة لسنة 1933، أنّ عائلة السّيوفي استقرّت في دمشق خلال القرن الثامن الميلادي وأنّ منها من اعتنق الإسلام، وأنّها تخصّصت في الحدادة وعرفت بصناعتها الجيّدة للسّيوف الدّمشقية، ومن هنا اشتهارها بلقب «السّيوفي». ويبدو من خلال ما يذكره ابن العماد الدّمشقي [شذرات الذّهب في أخبار من ذهب، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 8، ص 3] أنّ الفرع المسلم للعائلة قد نبغ فيه عدّة أعلام أشهرهم: العلاّمة الشّافعي عماد الدّين إسماعيل بن محمّد السّيوفي الشّهير بخطيب جامع السّقيفة في باب توما في دمشق (833-897 هـ)، وابنه العلاّمة شمس الدّين السّيوفي الشّهير بابن خطيب السّقيفة. كما توجد في سفح جبل قاسيون بدمشق زاوية يطلق عليها اسم «زاوية السّيوفي» قد تكون نسبة إلى أحد رجالات هذا الفرع.
وقد عرّف يوسف إليان سركيس [معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، 1410 هـ، ج 1، ص 1087) بنقولا السّيوفي كما يلي: «نقولا السّيوفي: ولد بدمشق ودرس اللغتين العربيّة والفرنسيّة بمدرسة الآباء اللعازريّين، وفاق أقرانه بالعلم والذّكاء فاستخارته قنصليّة فرنسا أن يكون ترجمانا لها، وقد استخصّه الأمير الخطير عبد القادر الجزائري لأن يكون في معيّته في إحدى رحلاته إلى باريس والقسطنطينيّة. وكان في خزانتي نسخة خطّية من كتاب الأمير المذكور (ذكرى العاقل) الذي ألفه في باريس وأهدى منه نسخة للمترجم له كتب عليها بخطّ يده: (هذه الرّسالة العجالة ألفها كاتب هذه الأحرف بالتماس بعض أحبّته بباريس، وأهديت منها هذه النّسخة لعوض ولدي العزيز التّرجمان نقولا السّيوفي نفعه الله بالعلم وفتح له أقفال الفهم، لما له علينا من حقوق الخدمة وحسن الصّحبة. في 27 صفر سنة 1279 هـ). واستوطن مدينة بيروت إثر نكبة الشّام سنة 1860 م، ومكث بخدمة القنصليّة الفرنسيّة ثمّ سمّي قنصلا للدّولة المذكورة في حلب والموصل ثمّ في بغداد، وعند إحالته على المعاش عاد إلى الشّام وابتنى له مسكنا في بعبدا (لبنان) وقضى بها باقي أيّامه إلى أن وافاه الأجل المحتوم. وكان صاحب التّرجمة متضلّعا في العلوم التّاريخيّة لاسيّما في المسكوكات القديمة، وله مقالات باللّغة الفرنسيّة نشرت في المجلّة الآسيويّة بباريس، وله باللغة العربيّة لائحة تتضمّن ما ارتكبه البروسيّون في فرنسا من المظالم والسّرقات والقساوات أثناء حرب 1870 طبع في بيروت سنة 1871 م».
ويعتبر نقولا السّيوفي من أبرز مفكريّ الشّام وعلمائها الذين اتّصلوا عن قرب بالحضارة الأوروبيّة خلال النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر. ولعلّ من ميزاته قدرته الفذّة على اكتساب المعارف الأوروبيّة وتوظيفها في سبيل فهم أفضل لجذور الحضارة العربيّة. وقد أدّى هذا الانفتاح إلى نشوء نمط جديد من التّفكير وطراز مبتدع من الكتابة العربية يمكن عدّه تأسيسا للغة العربية الحديثة. وقد شارك السّيوفي بالخصوص معاصريْه نعمان قسطلي وأبو خليل قبّاني التمرّد على نمط الكتابة التّقليدي ولوك العبارات المكرورة، والثّورة على نمط الموسيقى الشّائعة في دمشق مع بداية انهيار السّلطنة العثمانية. ومن أهمّ أعمال السّيوفي باللّغة الفرنسيّة: • « Liste des monnaies musulmanes », 2 ouvrages, en 1880 à Mossoul. • « Supplément n° 1 au catalogue de monnaies arabes », publié entre 1879 et 1891, à Mossoul. • « Tableau de monnaies musulmanes (suite)», Mossoul, 1880. • « Etudes sur la religion des Soubbas leurs dogmes et leurs mœurs », Paris, 1880 .
ولم يصلنا من كتب نقولا السّيوفي المؤلّفة بالعربيّة سوى كتابه «مجموعة الكتابات المحرّرة على أبنية الموصل وقلعتها»، وهو كتاب شديد الأهميّة ويعدّ مرجعا في علم الآثار الخاصّة بمنطقة الموصل، وقد حقّقه المؤرّخ العراقي سعيد الديوة جي، وطبع سنة 1956 بمطبعة شفيق ببغداد.
ويبدو نقولا السّيوفي من خلال كتابه حول «الصبّة» الذي نترجم فصله الرّابع، مسيحيّا ملتزما، وهو ما لا يقدح فيه بقدر ما يلزمنا بالحذر في ما ينقله ملوّنا بمنظاره الدّينيّ التّبشيريّ وقصده البيّن الذي عبّر عنه في كتابه في «إثبات مسيحيّة الصّابئة»، وهو ما يدخل عمله في باب «الاستشراق» وإن كان كاتبه عربيّا صرفا. ونحن نرى أنّ التزام السّيوفي الدّيني ذاك ربّما كان وراء تجنّسه بالجنسيّة الفرنسيّة وخدمته موظّفا ساميا لدى فرنسا التي لم تكن تخفي آنذاك أطماعها في الشّرق العربي، وهو ما يعضده تولّيه إثر تقاعده من الوظيفة منصب القاصد الرّسولي للفاتيكان في بيروت ابتداء من سنة 1894 وإلى حين وفاته.
وتندرج ترجمة هذا الفصل ضمن اهتمامنا بترجمة النصّوص التي تطرح مسائل المقدّس والدّيني، وهي مساهمة لها حدودها ولكنّنا نؤمن بضرورة المساهمة بمثل هذه التّرجمات في إثراء معرفتنا بأنفسنا، إذ الصّابئة منّا وإلينا بل ربّما هي أصلٌ مؤسّس لكياننا الحضاري رغم اختلاف الأديان والعقائد. ومن هنا يضعنا هذا العمل أمام منهج نقارن فيه بين النّصوص الدّينيّة وذلك في إطار مشروع بين مترجمي هذا النصّ للسّيوفي يهدف إلى تعريب بعض النّصوص المفاتيح وطرحها موضوع بحث على القارئ والباحث العربي.
أمّا اختيارنا لهذا الفصل بالذّات من كتاب السّيوفي فيعود أساسا إلى طرحه ثلاث إشكاليّات تاريخيّة نظنّ أنّها لم تأخذ حظّها بعد من الدّرس: * إشكالية هيكل الصّابئة في مدينة القدس وحقوق هذه الدّيانة مثل غيرها في المطالبة بإرث تاريخي فيها. * قضيّة ملاحقة اليهود للصّابئة وتقتيل كهنتهم ممّا منعهم من التّزاوج والتّكاثر وهدّدهم بالانقراض. * ملاحقة المسلمين لهم في بعض الفترات ممّا يطرح قضيّة حدود التّسامح في التّاريخ الإسلاميّ وضرورة القيام بنقد ذاتي حيال ما يمكن أن يعتبر مركزيّة حضاريّة. ودون الدّخول في تفاصيل هذه الإشكاليّات، فإنّ ما نؤكّد عليه بالخصوص أنّنا لم نسع من خلال هذا العمل إلى استفزاز شعور أيّ كان، كما نؤكّد احترامنا لخصوصيّات جميع الثقافات. ملاحظة بخصوص الهوامش: وضعنا هوامش النصّ الأصلي بين نجمتين** وهوامش المترجمين بين قوسين(…).
***
الفصل الرّابع: أحداث عرفها «الصبّة»(1) بعد موت «يحيى» - أميرة يهودية تتحوّل إلى دين الصبّة - غضب والد هذه الأميرة – مناظرات بين علماء اليهود وعلماء الصّبة – إفحام العلماء اليهود – تقتيل الصّبة – إغراق جمع غفير من اليهود – تدمير القدس – انتقال الصبّة إلى موطن جديد – تكريس كائن سماويّ لاثنين من الملوك – ظهور موسى نبيّ العبريّين – إعلان ملوك الصبّة الحرب على موسى – هروب موسى وأصحابه – انشقاق البحر لهم كي يمرّوا – جيش الصبّة يلاحقهم ويغرق في لجّة الأمواج – نجاة قلّة منهم من الغرق -الصبّة دون كهنوت – ظهور آدم أبو الفرج، الملك الحبر – رعيه الغنم - مفارقته الصبّة ليعيش في مندلي – اضطهاد المسلمين للصبّة – تعصّب رئيس المسلمين وممارسته السّحر – اكتشاف الصبّة انسحاب حبرهم – إرسال سفيرين لطلب مساعدته – حضور الحبر إليهم بصفة خارقة – إبطاله سحر رئيس المسلمين- معجزاته – تخليصه الصبّة – مفارقته الصبّة من جديد - تجدّد الاضطهاد – نزاع حادّ بين صابئ ومسلم – التّبعات السيّئة لهذا النّزاع – بقاء الصّابئة طويلا دون كهنوت ودون زواج – إقامة كهنوت – جوائح – إبادة الكهنوت مرّة أخرى وتنصيب كهنوت جديد – طرق هذا التّنصيب السّارية إلى أيّامنا.
***
حين فارق «يحيى» هذا العالم، ترك في الصّابئة ثلاثمائة وستّة وستّين مريدا جميعهم «كنزفرة» أو «ترميذة»، أساقفة وكهنة. وقد تابع الصّابئة عيشهم في مدينة القدس في وئام تامّ مع «أليعازر» وأتباعه [اليهود] الّذين كانوا يفوقونهم عددا. وقد كان معبد(2) الصّابئة حذو بيعة اليهود، وكان الجميع يتكلّم لغة واحدة. وقد كانت لأليعازر بنت اسمها «مريم» (3)، وكانت أميرة تَقِيَّة تتردّد يوميّا على البيعة وتحظى بمحبّة الجميع. وذات يوم سهت الأميرة وبدل أن تدخل البيعة دخلت معبد الصّابئة، فوجدتهم يُؤدّون صلاتهم، ولم تتفطّن إلى خطئها إلاّ بعد أن وجدت نفسها داخل المعبد. ومع ذلك، بقيت داخله ولم تغادره إلاّ بعد انتهاء الصّلاة. وقد رافقها الأساقفة والكهنة إلى الباب حيث شكروها وسألوها عن سبب تشريفهم بالزّيارة، فأجابت بقولها: «لم أكن أقصد ذلك ولم أرده، لكنّه نتيجة سهو، فعوض أن ألج باب الكنيس جئت إليكم، ولم أتفطّن إلى الأمر إلاّ بعد دخولي المعبد، ولكنّني لست نادمة على خطئي، لأنّ صلواتكم وأناشيدكم أثّرت فيّ». ومنذ ذلك اليوم، مالت «مريم» إلى دين الصّابئة وأضحت تختلط سرًّا بزوجات «الكنزفرات» و«التّراميذ» كي تأخذ عنهنّ دينهنّ. وبعد التمكّن من لسان الصّابئة (4) والاطّلاع على الشّرائع والأحكام الموجودة في كتبهم، تخلّت الأميرة عن ملابسها ومجوهراتها وتزيّت بلباس أبيض كما ينبغي لصابئة صالحة. وبما أنّها كانت تذهب كلّ يوم أحد إلى المعبد، فقد سألتها أمّها باستغراب عن تصرّفها، فما كان منها إلاّ أن أجابت بقولها: «لقد تخليّت عن دينكم واعتنقت دين الصّابئة».
وحين أخبرت الأمّ زوجها «أليعازر» بمقال ابنتها، سارع باستدعائها وسؤالها. إلاّ أنّ الأميرة لم تنكر الأمر، بل ثبتت على موقفها رغم تهديد والدها ووعيده، وحسمت الجدل بأن طلبت من والدها إحضار جمع من كهنة وعلماء الإسرائيليّين لتناظرهم، على أن يعتنق المُفْحَم دين الآخر.
وحين المناظرة، لم تصمد المعارف العبريّة الواسعة أمام ما قدّمته المؤمنة الجديدة من براهين ساطعة، وقد أنهت كلامها بأن توجّهت إلى والدها بهذه الكلمات: «إنّ قوّتك وثرواتك لا تستهويني. سأتخلّى لك عن جميع هداياك من الحليّ، فما هي سوى أشياء عابرة لا قيمة لها، من أجل أن تكون الحياة الآخرة كلّ همّي». وعند سماعه هذه العبارت، انقضّ «أليعازر» على ابنته كي يقتلها، لولا أن خلّصتها أمّها العطوف من بطشه. وهكذا ثبتت الفتاة على دين الصّابئة، ودرست تعاليمه بعمق حتّى غدت معارفها تضاهي معارف أيّ «كنزفرة». وأمام العجز عن كبح جماح غضبه من جهة، والخشية من أن يحمل مثال ابنته بعضا من طائفته على اعتناق الصَّابئيّة ، جمع «أليعازر» في أحد الأيّام أعيان اليهود وأطلعهم على مخاوفه وأنّ الوسيلة الوحيدة لتجنّب هذه الطّامة الكبرى هي قتل الصّابئة. وقد رحّب من في المجلس بهذا الرّأي وأجمعوا على وجوب تذبيح الصّابئة، وقاموا إثر ذلك باستنفار اليهود الّذين انقضّوا على الصّابئة وقتّلوهم جميعا باستثناء «مريم» الّتي وضعتها أمّها تحت حمايتها وعدد قليل ممّن تمكّنوا من مخاتلة خناجر القتلة. وفي تلك اللّحظة ظهر «أنّش أثرا»، في صورة نسر، وضرب بجناحيه ملقيا اليهود في النّهر، ثمّ حرّك مياه النّهر بجناحيه، فعظمت أمواجُهُ وأغرقتهم جميعا. وعلى الإثر، لحق «أنّش أثرا» بفلول الهاربين من الصّابئة الذين انضمّوا بتشجيع منه إلى «مريم» ويمّموا شطر مدينة القدس لهدمها بأكملها. ثمّ ساقهم بعد ذلك نحو موضع آخر استقرّوا به وأقام لهم عددا من «الكنزفرات» و«التراميذ». وحين أراد أن يفارقهم، طلبت منه «مريم» مصاحبته إلى « آلمي د نهورا » (عالم النّور) معبّرة عن عدم رغبتها في البقاء في هذا العالم. وأجابها «أنّش أثرا» بقوله: «إنّ الوقت لم يحن بعدُ كي تفارقي هذه الحياة، لكن تأكّدي أنّك ستفارقينها يوما، وسيكون مقامك بمكان هو من الرّفعة إلى حدّ يجعلني أحسدك عليك». فسألت «مريم»: «وما هو ذاك المكان؟» فأجابها الملاك «حالما تحًلّين في «آلمي دنهورا»، ستنعمين بصُحبة «سيموث حيّ» *5* إلى أبد الآبدين، وهي تجلس بجانب «مريم إيداربوثو»، وإنّي لأرجو أن تذكريني حينها». ورغم إلحاح «مريم» في الذّهاب معه، إلاّ أنّ توسّلاتها ذهبت أدراج الرّياح. وقد اختار «أنّش أثرا» قبل أن يترك الصّابئة ويعود إلى «آلمي د نهورا» (عالم النّور) أخوين من بينهم ونصّبهما ملكين يدفعان عن الملّة صولة الأعداء، وكان اسم الأكبر «فرّوخ ملكا» والأصغر «أردبان ملكا».
وقد حدث بعد عودة «أنّش أثرا» إلى الجنّة، أن تكاثر اليهود والصّابئة وازدادت أعدادهم، حتّى أنّ الصّابئة أصبحوا أكثر عددا ممّا كانوا عليه زمن «يحيى». وفي هذا الوقت، ظهر «موسى» نبيّ العبريّين *6* الّذي قرّر أن يثأر لليهود الّذين أبادهم «أنّش أًثرا»، وهو ما صادف من جهة أخرى رغبة «فرُّوخ مَلْكا» في الثّأر للصّابئة الّذين قتَّلهم «أليعاز» لولا أن أرسل إليه «أباثر» رسالة تمنعه من محاربة «موسى» وتأمره بمغادرة البلاد مع جماعته في الحين والاستقرار في مكان آخر. إلاّ أنّ ملك الصّابئة لم يعر هذا الأمر السماويّ اهتماما، وأعلن الحرب على اليهود. وحين التقى الجيشان، تواجه القائدان (فرّوخ ملكا وموسى) في براز طويل انتهى بهروب «موسى» ومن معه، إلاّ أنّه لم يكن بوسعهم الهروب بعيدًا لأنّ البحر كان يعترضهم، فما كان من موسى إلاّ أن دخل عباب البحر الذي انشقّ إلى نصفين كاشفا عن طريق في الوسط. وقد وقف موسى وسط البحر الّذي بقي منشقّا *7* إلى حين عبور جميع عسكره، وكان هو آخر من عبر. وكان أن تبعهم «فرّوخ ملكو» مع جيشه الّذي كان يقوده بمعيّة أخيه، وفي الوقت الّذي عبر فيه موسى البحر إلى اليابسة *8*، اجتمع طودا الأمواج من جديد، فغرقت جيوش «فرّوخ ملكا» عن بكرة أبيها ولم ينج سواه إذ تمكّن من بلوغ اليابسة صحبة أخيه وثلاثين من الصّابئة (من الرّجال والنّساء)، تقريبا في نفس الوقت الّذي بلغ فيه موسى اليابسة.
وحين لاحظ موسى أنّ جيوش العدوّ ابتلعها الطّوفان (9)، طفق يلاحق العدد القليل ممّن نجا من الصّابئة. إلاّ أنّهم أفلتوا منه، ولم يتوقّفوا إلاّ في «شُوشتر» (في فارس). وهناك، ترك الأخوان [فرّوخ – ملكا وأخوه] رفاقهما التّعساء، وتابعا المسير نحو «مْشُوني كُشْطا». وبعد وصوله بفترة قصيرة، مات «فرّوخ ملكا». وحين صعدت روحه إلى «أباثر»، لامه لوما لاذعا على عدم تنفيذ أوامره وتسبّبه في هلاك الصّابئة بإشهاره الحرب على موسى، ثمّ أرسل تلك الرّوح إلى «الْمَطَراثا» كي تتطَهّر من خطيئتها.
بيد أنّ الصابئة الّذين استقرّوا في «شُوشْتر» كانوا يفتقرون إلى كهنوت، ولم يكن يمكنهم بالتّالي الزّواج. ولتفادي هذا الخلل، قاموا باختيار بعض فضلائهم للتكفّل بمهامّ الكهنة (تَرْمِيدُهْ)، دون أن يتوصّلوا إلى ملء رتب الكهنوت الشرعيّة والدّائمة التي كانوا في حاجة إليها. ورغم ازدياد عدد الصّابئة مع مرور الزّمن، إلاّ أنّ وضعهم كان غير طبيعيّ، إذ وقعوا في جهل ديني كبير نتيجة غياب رجال الدّين. وفي تلك الحقبة، أرسل إليهم شخص فاضل اسمه «آدم أبو الفرج». وكان «آدم أبو الفرج» بعد خروجه وزوجته من بلده «مْشُوني كُشْطُُُُهْ» قد توقّف لبعض الوقت في مدينة «مَنْدَلِي» *10*، قبل أن يذهب إلى«شُوشْتر». وهناك حرص على ألاّ يعرفه أحد من الصّابئة حتّى أنّه أجابهم حين سألوه عن مهنته: «أنا راع»*11*، ومن هنا ذهب في روع الصابئة أنّه راعي مواش، فأقاموه راعيا للأبقار*12*. وَقد ارتضى القيام بهذا العمل الوضيع دون أن ينبس ببنت شفة، وتابع مع زوجته حياة شديدة الغموض لكنّها شريفة، وكانا في جميع تصرّفاتهما وهيئتهما مثالا لما ينبغي أن يكون عليه الصّابئة الصّالحون.
وفي أحد الأيّام، تعرّضت زوجة «آدم أبو الفرج» إلى سخريّة بعض صديقاتها، وعيّرنها بلبس زوجها الدّائم للبياض*13*، إذ هو أبسط الألوان وأكثرها تداولا، وبأنّه يمنعها من لبس الحليّ. وحين عاد آدم إلى بيته مساء، وجد زوجته حزينة *14* على غير عادتها، فسألها عن سبب حزنها. وحين أعلمته السّبب، رجاها أن تعدّ له عجينتين، واحدة من دقيق القمح وأخرى من دقيق الشّعير. وحين أعدّت ذلك، صنع «آدم أبو الفرج» من العجينة الأولى سوارين كبيرين تحوّلا في طرفة عين إلى ذهب خالص، كما صنع سوارين من عجينة الشّعير انقلبا هما أيضا إلى فضّة خالصة. وأعطى «آدم أبو الفرج» زوجته الأسورة، فتزيّنت بها في الحين قبل أن يطلب منها أن تأتيه بكتاب اسمه «كنْزا رَبّا» *15*، ويأمرها بقراءة الفقرة الّتي تتعلّق بما يحلّ بالمتزيّنين بالحليّ من عقوبات. وما أن قرأت تلك السّطور حتّى سارعت بنزع أسورتها وإلقائها بعيدا قبل أن تطلب عفو «أَلَهَا»،عمّا ارتكبت من ذنب.
وبعد مدّة من ذلك، التقى «آدم أبو الفرج» امرأة مُسِنّة وهي تبكي بكاء مرّا، فسألها: «لم تبكين؟»، فأجابته: «لقد توجَّهت أكثر من مرّة إلى الكهنة أرجوهم نسخ(16) أحد كتبنا، وكانوا يرفضون ذلك على الدّوام ممّا يمنعني من إنجاز أمر عظيم الثّواب». فقال لها: «كفّي عن البكاء، فأنا مستعدّ لتلبية رغبتك، عودي إليَّ بعد ثمانية أيّام وستجدين كتابك»، فقالت له: «كيف يمكنك أن تنسخ في ثمانية أيّام كتابا يتطلّب نسخه شهرين على أقلّ تقدير؟»، فأجابها: « هذا الأمر لا يعنيك، عودي بعد ثمانية أيّام، وسيكون الكتاب جاهزا». وسألته المرأة: «وكم ستأخذ منّي مقابل هذه الخِدمة؟» فأجابها: «اعْطِنِي ما تريدين». وجاءت المرأة بعد ثمانية أيّام إلى آدم أبي الفَرَج، فَسَلَّمَها الكتاب الّذي نَسَخَهُ، وكان خطّه بديعا. وقد كتب في آخره بعد ذكر تاريخ النّسخ *17* بضعة أسطر افتتحها بعبارة «أي شيشتريو باغيونو»، وهي : «أيّها الشُوشْتَرِِِِيُّون الظّلمة، لقد جئت كي أرعاكم لا لرعي المواشي، لكنّكم لم تعرفوني، ولهذا أترككم لأذهب إلى مندلي. وإذا ما تعسّرت أحوالكم، فما عليكم إلاّ أن تجيؤوني»*18*.
وتسلّمت المرأة المخطوطة والفرح يغمرها، وأعطت آدم مالا مقابل خدمته، ومن ثمّّ غادر مباشرة نحو «مَنْدَلي». غير أنّه كان لمسلمي «شُوشْتر» رئيس شديد التعصّب والخبث يدعى «محمّد غولخوار» (أو آكل الورد) تمكّن بخزعبلاته من استمالة قلوب الأتباع. وقد أمر في أحد الأيّام بإحضار الصّابئة، وحاول إجبارهم على اعتناق الإسلام. وأمام رفض الصابئة قال لهم: «سآتي أمامكم بعض الخوارق، إذا أتيتم بمثلها لكم أن تحتفظوا بدينكم وإلاّ طالبتكم بالدّخول في ديني». وقد أقرّ الصّابئة بعجزهم عن مجاراته، ورجوه الكفّ عنهم، إلاّ أن السّيف سبق العذل وكان عليهم الرّضا بما قسم لهم. وبدأ «محمّد في إظهار معجزاته، فأخذ حبلا صيّره حيّة وأمسك بذيلها وأمرها بلدغ أحد كهنة الصابئة، فأصابته بلدغة سامّة. ثمّ وقف فوق ركام من الصّخور فاستحال أسدا مرعبا. ثمّ أطلق الأسد واتّجه نحو النّهر، وهناك ألقى على الماء الجاري سجّادة صلّى فوقها دون أن تغوص به في الماء. وبعد هذه المعجزات الثّلاث، طلب محمّد من الصّابئة الإتيان بمثلها، فبُهتوا ولم يحيروا جوابا وسألوه مهلة للتّفكير. وقد منحهم رئيس المسلمين مهلة أربعين يوما، فعادوا أدراجهم والغمّ يملأ قلوبهم. وقد كان في هذا الأمر فرصة للعجوز الّتي تقدّم الحديث عنها للسّخرية من بعض كهنة الصّابئة إذ قالت لهم: «لقد قدرتم على أن تقسوا على امرأة مسكينة مثلي حين رفضتم نسخ الكتاب الّذي طلبته منكم، إلاّ أنّكم انهزمتم أمام ساحر، آه لو كان ناسخ كتابي هنا، لأبان من الشّجاعة فوق ما أظهرتم في هذا الموقف المخذل!»، فسألها الكهنة «ومن نسخ لك هذا الكتاب؟». فأجابت المرأة: «إنّه الرّاعي الّذي غادرنا منذ زمن قريب». ولم يصدّق الكهنة أن يكون راع عارفا بالكتابة، وطلبوا منها أن تريهم المخطوط. ولمّا تسلّموه من المرأة، وجده الكهنة جيّد الخطّ، وتصفّحوه إلى أن بلغوا خاتمته، فوجدوا العبارة الأخيرة الّتي وضعها «آدم أبو الفرج» لأجل الصّابئة. وحينها، تفتّحت أعينهم وأيقنوا أنّ راعي المواشي لم يكن كأحد من النّاس، وأنّه وحده القادر على تخليصهم من مضطهدهم، وعلى الفور أنابوا إلى «أَلَهَا» طلبا للتّوبة عمّا اقترفوه بلا قصد في حقّ الرّجل الصالح الّذي لم يشأ إعلان نفسه، وأرسلوا اثنين من فتيانهم الأشدّاء الخفاف كلّفوهما بالذهاب إلى «مندلي» يترجّيان «آدم أبي الفرج» أن يسارع في نجدتهم. وقد دخل الشّابان منزل «آدم أبي الفرج» وعرضا عليه ما يحدق بالصّابئة من أخطار وطلبا منه نسيان الماضي والعمل على خلاصهم، فقال لهما: «اطمئنّا، سنخرج معا اللّيلة، كي نخلّصهم»، فأجاباهُ: «لا يمكننا أن نصل في الوقت المحدّد، فقد قضينا ثلاثين يوما في الوصول إلى هنا، ولم يبق سوى يومين فحسب قبل حلول الأجل الّذي سيتمّ فيه غََََصْب الصّابئة على الدّخول في الإسلام». فقال لهم الرّاعي السّابق: «لا خوف عليكم».
وحين جنّ اللّيل، صلّى «آدم أبو الفرج» مع الشّابين المُرسلين صلاة قصيرة إلى «آلَهَا» كي يعينهم، قبل أن ينطلق ثلاثتهم في المسير كامل اللّيل. وكم كانت دهشة الشّابين كبيرة حين وجدا نفسيهما عند الفجر قرب نهر يشبه نهر بلدهما «شوشتر». فصاحا قائلين: «أليس هذا نهرنا ؟». وفي تلك اللحظة لمحا مدينتهما، فسألا: «هل بلغنا شوشتر في مسيرة ليلة واحدة ؟» فأجاب «آدم أبو الفرج»: «نعم، لقد بلغناها بِعََوْنِ آَلَهَا». وحينها، سارع الشّابان بحمل البِشارة إلى الصّابئة الذين خرجوا جميعا رجالا ونساءً للقاء مُخَلِّصِهِمْ. وعندما وصلوا إليه ارتموا عند قدميه طالبين الصّفح عمّا اقترفوه في حقّه حين جاءهم في المرّة الأولى، واحتفوا به أشدّ الاحتفاء وأكرموه غاية الإكرام عند دُخوله المدينة. وفي الغد، وقد كان آخر أيّام الأجل المُحدّد، أرسل رئيس المسلمين في طلب الصّابئة، فجاؤوه مع «آدم أبي الفرج». وحين عاود محمّد مرّة أخرى تخييرهم بين الاتيان بمعجزة أو الدّخول في الإسلام، تدخّل «آدم أبو الفرج» وقال له: «أنا رئيس الصّابئة، وقد وصلت البارحة إلى هذه المدينة. وبما أنّني لم أشهد معجزاتكم، فإنّي أرجو أن تكرّروها أمامي، وسأُريكم بعد ذلك معجزاتي».
وافق محمّد على طلبه، وكرّر القيام بما سبق أن قام به في المرّة السابقة. وحين وجّه الأفعى الّتي كانت قبل برهة حبلا نحو آدم، أمسكها هذا بيده ووبّخها بقوله: «ها أنت تخضعين إذن أيّتها اللّعينة لأوامر ساحر!». وعند سماعها هذه الكلمات، عادت الأفعى حبلا كما كانت من قبل. أمّا حين وجد أبو الفرج نفسه في مواجهة الأسد الّذي يمتطيه المُسلم، فقد وجّه صفعة للوحش ولامه أيضا، وعندها عاد إلى صورته الأولى، كومة من الحجارة.
ودون أن يفقد الأمل، اتّجه رئيس المسلمين ناحية النّهر تتبعه جَمهرة من المسلمين والصّابئة، وألقى سجّادته على الماء وقام يصلّي فوقها، فصاح آدم مهدّدًا النّهر: «حتّى أنت أيضا تنساق لأوامر ساحر!» وعند هذه الكلمات، غطس محمّد وسجّادته في القاع ولم يفلت من الغرق إلاّ بصعوبة، وخرج من النّهر في حالة من الإزراء والارتباك الشّديدين. وعند هذا الحدّ، قال «آدم أبو الفرج» لمحمّد: «والآن حان دوري حتّى أُريك معجزاتي»، وطلب نواة تَمْرَةٍ، غسلها سبع مرّات في الماء ثمّ وضعها في الأرض على حافّة النّهر، وقام يصلّي إلى «أَلَهَا»، وإذ بالنّواة تنبت برعما أخضر أمره آدم أَنْ يَنْمُو، وفي طرفة عين غدا نخلة تربو على قامة رجل. ثمّ أمر آدم النّخلة أن تمْتَلئ ثمرًا، فَزَرَّرَتْ في الحين زهورا كثيرة لقحت في التوّ دون أيّ تأبير من لقاحٍ ذكوريّ وتحوّلت إلى عراجين تَتَدَلَّى ذات اليمين وذات الشِّمَال تحت وطأة الغلال النّاضجة. وحينها، طلب رئيس الصّابئة من محمّد ارتقاء النّخلة وأن يقطف من ثمرها ويرمي منه إلى الحَشْدِ. ولمّا صار محمّد على رأس النّخلة، أمرها آدم بالتّطاول وصَاحَ بها: « سَاْندَارْكَا سُوقْ» (يا نخلة ارتفعي!)، فارتفعت نحو السّماء إلى علوّ عَجيب، وحينها أَمَرَ آدم الفُروع الّتي تُغطّي رأس النَّخلة بالالتفاف حول المسلم المتعجرف وإحكام الضّغط عليه، ونادى رَيَحا الشّمال والجنوب كي تعصفا بالتّوالي وبشدّة إلى أن تحني النّخلة حتّى تلامس الأرض مع كلّ هبّة. ولمّا اشتدّ الأمر على رئيس المسلمين التَّعِس وصار جميع جسمه مرتعدا، صاح بكلّ قوّته وتوسَّل إلى آدم أن يضع حدّا لعَذاباته واعدًا بألاّ يتعرّض للصّابئة أبدا. وهنا أمر «آدم أبو الفرج» الرِّيَاحَ بالتوقّف، ففعلت وَسَكَنَتِ النَّخلَةُ، وحينها قال آدم لمحمّد: «إذا أردت النُّزول سالماً، فاجمع أعيانَ طَائِفَتِكَ وعُلََمَاءَها هنا، ولتكتب معهم عهدا بعدم التعرّض للصّابئة». وأرسل محمّد في طلب العلماء، فقدموا وأمضوا مع رئيسهم كتاب العهد على ورقة بردي وضعت بين يَدَيْ آدم الذي سلّمها بدوره إلى كهنة الصّابئة قبل أن يستدير ناحية النّخلة ويصيح فيها: «سَاْندَارْكَا، نْْْْهُوتْ!» (يا نخلة اهْبِطي!). وابتدأت النّخلة بالتّقاصر إلى أن نزل رئيس المسلمين أرضا، وواصل آدم ترديد كلمة «نهوت» (اهبطي) والنّخلة تتقاصر وتتقاصر إلى أن دخلت الأرض وغدت نواة كما كانت قبل أن تُزْرَعَ. وعندها أخرجها «آدم أبو الفرج» ووضعها في يد محمّد، فارتمى هذا عند قدميه مجدّدا ووعده بعدم التعرّض للصّابئة. ولمّا انتهى الأمر، عاد كلّ إلى بيته.
وإكراما لآدم أبي الفرج، نحر الصّابئة واحدا من أجمل ثيرانهم وليمة طعام. وحين سألهم لم ذبحوا الثّور، أجابوه: «هذا لعشائك». وعندها أمرهم يإلقاء ذلك اللّحم في النّهر ونَبَّهَهُم إلى أنّ لحم الثّور محرّم عليهم أكله. وفي الغد، وكان يوم أحد، عمّدهم جميعا كبارًا وصغارًا، وأحضر كتابا تلا منه عليهم الآية التي تحرّم على الصّابئة أكل لحوم الأبقار. وبعد أن أقام بينهم مدّة يفقّههم في دينهم، اقترح عليهم مغادرة بلدهم ليعيشوا في مكان آخر، وهو الاقتراح الذي ما كان ليقدّمه لولا خوفه من تعرّضهم لأذى المسلمين مجدّدا. لكنّ الصّابئة أخبروه بما ينجرّ من خسارة لو فرّطوا في ممتلكاتهم وتجاراتهم، فاستقرّ الرّأي على المكوث حيث هم. وكَرَّسَ آدم «كنزفرات» وأقام «تراميذ» عند الصّابئة، وبذلك نشأ عندهم كهنوت شرعيّ؛ ثمّ ودّعهم ليعود إلى «مشوني كُشْطُهْ». وقد فرح المسلمون بمغادرته، ولم يطل الأمد حتّى عادوا إلى التعرّض إلى الصّابئة واضطهادهم وسومهم سوء العذاب، فقرّر الصّابئة مغادرة البلد حيث ذهبت قلّة منهم إلى «دزفول» ليستقرّوا بها دون أن يصحبهم أي «ترميذه» (طالب علم) أو كاهن، بينما توجّهت الأغلبيّة مع كهنوتهم إلى نهر «كارون» قرب مدينة «المحمّرة»، وهناك عاشوا طويلا في انسجام مع مسلمي ذلك البلد(19).
وفي أحد الأيّام (منذ مائتي سنة خلت)، حدث أن دخل صابئيّ في خصومة حادّة مع مسلم، وشتم المسلم «يَحْيى»، فردّ الصّابئي بشتم النبيّ محمّد*20*. وعلى الإثر استنفر المسلم بني ملّته فقدموا من كلّ حدب وصوب للردّ على هذه الإهانة، ولحق الصّابئة بدورهم بابن ملّتهم وقامت معركة ضارية بين الجانبين. ومع أنّ عدد المسلمين كان يفوق بكثير عدد الصّابئة، إلاّ أنّ كلّ صابئيّ كان يقتل ثلاثة أو أربعة مسلمين قبل أن يموت، بحيث مات من المسلمين عدد أكبر ممّا خسر الصّابئة. إلاّ أنّ كثرة عدد المسلمين رجّحت كفّتهم، فقتلوا معظم الصّابئة باسثناء عدد قليل منهم التحق بأهل طائفتهم بمدينة «دزفول»، لكنّهم ظلّوا معهم خمسين سنة دون زواج بسبب افتقادهم الكهنة المخوّلين وحدهم عقد القرانات. وانتهى الأمر بأن اجتمع الأعيان في أحد الأيّام ليقرّروا بعد النّظر في كتبهم اختيار بعض الأشخاص الأفاضل ليقوموا بمهامّ «الكنزفرة» و«الترميذة». وما إن باشر هؤلاء مهامّهم الجديدة، حتّى احتكروا صفة الكهنوت لأنفسهم على عكس ما كان يقتضيه العدل، ومنحوا أنفسهم حقّ التمتّع بتلك المراتب وتوريثها لأولادهم، وهو ما جعل غيرهم لا يجاوز مرتبة «اشْكَنْدُهْ»*21*.
وتواصل الأمر على ذلك الحال إلى أن حَاق الطاعون الأَكْبَر سنة 1831 بفارس وبلاد الرّافدين وَعَاثَ في البلاد فسَادًا، وهلك فيه جميع المنتمين إلى الكهنوت. وهنا اضطرّ الصّابئة من جديد إلى البقاء دون زواج طيلة عشر سنوات في ظلّ غياب كهنة يَعْقِدُونَهُ، وهو ما دفع بهم خلال هذه المدّة إلى الهجرة من «دزفول» إلى «شوشتر». بَيْدَ أنّ عددا من الصّابئة سبق لهم أن سكنوا منذ فترة طويلة في بلدة تسمّى «سوق الشّيوخ»*22*، لكنّهم كانوا بدورهم دون كهنة فأرسلوا جمعا من أعيانهم إلى «شوشتر» رجعوا ومعهم كاهنان برتبة «اشكنده» هما: «الشّيخ عبد الله» و«الشّيخ بولاد» (جدّ معلّمي)، وقد كان الأوّل أعزب، أمّا الثّاني فقد جاء مع زوجته وأبنائه.
ولمّا تمّ ذلك، سعى أولئك الوجهاء إلى لقاء شيخ قبيلة «المنتفق» البدوية حاكم تلك المنطقة حاملين معهم هدايا، وطلبوا منه السّماح لهم ببناء «مندي» وتكريس كهنة فيه. وبعد الحصول على الإذن، كرّس «الشكندان» المذكوران ثلاثة «شكندات» آخرين لقّناهم واجبات الكهنوتيّة، ومن ثمّ اجتمع «الشكندات» الخمسة وتشاوروا فيما بينهم واختاروا «الشّيخ عبد الله» وكرّسوه «تَرْمِيذه»*23* ليكرّس بدوره ثلاثة منهم «ترميذه» وهو ما رفع عدد «التراميذ» إلى أربعة. ولم يبق بذلك على الصابئة إلاّ أن يُكرّسوا «كنزفرة» (أسقف)*24*. وقد تمّ الاختيار أوّلا على «الشّيخ عبد الله»، لكنّه اعتذر، فوقع الاختيار بعد مداولات على «ترميذه» آخر اسمه «عزيز» تمّ تكريسه «كنزفْره» ليقوم فور تسلّمه مَهامَّهُ بعقْد زيجات عديدة في صفوف الصّابئة. وبعد وقت قصير توفّي «الكنزفره» الجديد، وتعاقب «الكنزفرات» إلى اليوم*25*.
الهوامش
(1 ) الصّباة أو الصُّبّة أو الصّابئة أو الصّابية: تسميات شائعة للطّائفة المندائيّة في العراق.
(2) يستخدم السّيوفي هنا لفظ "كنيسة" وكأنّه يريد الانتصار للأطروحة القائلة إنّ الصّابئة مجرّد طائفة مسيحيّة مهرطقة وهو رأي روبار ستال (Stahl) وألفريد لوازي (Loisy)، مقابل الأطروحة الزّاعمة أنّهم طائفة منشقّة عن اليهوديّة وهو رأي باكلي (Buckley). وهيكل الصّابئة يدعى "المَنْدى"، ولا ندري إن كان وصفه بالكنيسة ينمّ عن نَفَس استشراقي عند السّيوفي أو إنّه أسقط ثقافته المسيحيّة على هيكلهم وأسماه كنيسة. وقد فضّلنا عبارة "معبد" لأنّها أكثر حياديّة وأقلّ إحالة على المسيحيّة.
(3) هي "موريو" في النّطق المندائي، وهي أيضا "مرياي" حسب ما جاء في كتاب "مواعظ و تعاليم يحيى"، ط 1، بغداد، 2001 ، ترجمة أمين فعيل حطاب، وهو عمل مصادق عليه من مجلس عموم الطائفة المندائيّة: "ويل لليهود الذين يضطهدون مرياي. ويل لأليزار كاهن المعبد الذي ثبّت بيت المقدس. ويل لزاتان الكاهن الذي شهد زورا ضدّ مرياي" (ص 102). وقد اخترنا إيراد الإسم "مريم" كما رسخ في النّطق العربي.
(4) ألم يكن الصّابئة واليهود يتكلّمون نفس اللّغة كما ورد في أوّل النصّ: «وكان الجميع يتكلّم لغة واحدة» ؟ وكيف تحدّثت مريم مع أحبار اليهود إذن ؟ نظنّ أنّ في هذه الأسطورة إشارة إلى الأصل الواحد للّغة المندائيّة واللّغة التي كتب بها اليهود أوّل نسخ توراتهم وهي الآراميّة.
*5* «سيموث حيّ» هي سيّدة نساء الجنّة (والمقصود هنا هو جنّة الصّابئة المندائيّة - المترجمان).
*6* يعتقد الصابئة أنّ مشرّع اليهود (موسى) لم يظهر إلاّ بعد «يَحْيى»، وقد نبهت مُعَلّمِي إلى هذا الخطأ التّاريخي فقال: «هذا ما جاء في أسفارنا».
*7* كانت المعجزة خاصّة بموسى دون قومه، ولو سبق جيشه وخرج من البحر قبله لغرق الجيش.
*8*هذا خطأ يصعب فهمه، فقد خَلُصَ الصّابئة إلى أنّ ملكهم هو «فرعون» التّوراة، ولاحظت ذلك لمعلّمي فقال: «لم أقرأ التّوراة، لكنّي أقصّ عليك ما جاء في أسفارنا».
(9) يطلق المندائيّون على هذه المناسبة اسم "عاشوريّة" وهو يوم حزن يقرؤون فيه الفاتحة (لوفاني) على أرواح المصريّين الذين غرقوا في البحر الأحمر عند مطاردتهم موسى وأتباعه. ومعلوم أنّ المندائيّين الحاليّين يعتقدون أنّ المصريّين القدامى كانوا على ملّتهم، وهذا نفس ما درجت على ذكره المصادر الإسلاميّة أيضا.
*10* مَنْدَلِي، مدينة صغيرة على بعد 15 أو 18 ساعة من بغداد.
*11* يقصد آدم أبو الفرج بكلمة رَاعٍ (pasteur)، رعاية النفوس لكن الصابئة أخذوا الكلمة في معناها الحرفي وجعلوا منه راعي غنم.
*12* يُحرّم على الصابئة أكل زبدة غير تلك الّتي يعدّونها بأنفسهم وبما أنهم يكثرون من استعمال هذه المادّة، فإنّهم يسعون إلى يومنا هذا إلى تربية الجواميس والبقر (رغم أنّهم لا يأكلون لحومها لأنّها محرّمة عليهم) بسبب كميّة اللّبن الهامّة الّتي توفّرها لهم.
*13*الأبيض هو اللّون المفضّل عند الصّابئة. ويجب على الصّابئي التقيّ الامتناع عن الملاببس غير البيضاء والتزيّن بالحليّ.
*14* الحزن محرّم على الصّابئة، وهو من علامات عدم التّقوى.
*15* أي "الكنز العظيم" وفيه ذكر لواجبات الصّابئة والعقوبات الّتي تُسَلّط على من لا يعمل بها.
*16* يفضّل الصّابئة أن يبدؤوا نسخ كتبهم إمّا يوم الأحد أو يوم الخميس، فهما اليومان المقدّسان عندهم.
*17* معظم المخطوطات المكتوبة بالعربيّة أو التّركيّة سواء تلك التي أمتلكها أو التي عاينتها، تحمل اسم النّاسخ، وسنة الانتهاء من النّسخ، وأحيانا الشّهر.
*18* حفظ العرب المسلمون الّذين يسكنون بلاد الصّابئة الكلمات الّتي ذكرت بلغة الصابئة. ويستغلّونها في بعض المناسبات للسخرية من جيرانهم أو مداعبتهم فيقولون لهم: «أي شِشْتُرويو بَغْيونو» فقد «كان أبو الفرج نفسه بينكم لكنّكم عوض أن تستقبلوه الاستقبال الّذي يستحق كلّفتموه برعاية الأنعام كما لو كان مجرّد راعٍ».
(19) صابئة الأهواز يعيشون إلى اليوم حول نهر كارون في سلام مع عرب إيران من الشيعة أساسا.
*20* يعتبر المسلمون شتم النبيّ محمّد جريمة لا تغتفر ولا يمحوها إلاّ القتل.
*21* قال لي معلّمي أن جَدَّه لأبيه واسمه «الشّيخ بُولاَدْ» كان يُعَدّ من الشَّكِنْدُهْ.
*22* كانت تسمّى سابقا "سوق النّواشي" وهي الآن مدينة تعدّ ثلاثة أو أربعة آلاف نسمة وتقع على الفرات على مسافة ست ساعات بالمركب من النقطة الّتي يلتقي فيها هذا النّهر بدجلة مكوّنا شطّ العرب.
*23* لتكريس ترميذه يتوجب اجتماع أربعة اشكندات، ولتكريس اشكنده يكفي ترميذه واحد.
*24* لتكريس كزنفره يتوجب اجتماع أربعة تراميذ.
*25* قال لي معلّمي إنّ الصابئة حسب ما جاء في كتبهم سيضطرّون في المستقبل إلى تحمّل مآسي كبرى، وسيأتي يوم يُحرمون فيه من رجال دين، وعددهم اليوم [عند وضع كتاب سيوفي] لا يتجاوز ألفا وخمسمائة نسمة (رجال وأولاد دون احتساب النّساء والبنات) وأنه سيكون هناك نقص كبير حتّى أنّه لن يبقى منهم إلاّ عدد ضئيل إلى حين مجيء "ياور زيوا".
ترجمة وتقديم: آمنة الجبلاوي ومحمّد الحاج سالم
تقديم العمل وكاتبه: يعتبر كتاب «دراسات حول ديانة الصبّة: عقائدهم وعاداتهم» لنقولا السّيوفي المنشور باللّغة الفرنسيّة سنة 1880 في باريس، بغضّ النّظر عن قيمته التّاريخيّة، من أوّل الكتب التي تناولت بالوصف ديانة الصّابئة في العصر الحديث (أو «الصبّة» في اللّهجة العاميّة العراقيّة)، ويتميّز بالخصوص بتقديم نظرة جديدة وغريبة عن المسيحيّة ويسوع المسيح، إذ «تكمّل شخصيّة يوحنّا المعمدان (يحيى) شخصيّة يسوع مثلما تكمّل اليد اليمنى اليد اليسرى في خدمة الإنسان» كما يقول السّيوفي، إذ يرى أنّ الصّابئة «يعتقدون في عودة يسوع المسيح إلى الأرض قبل نهاية الزّمان لتوحيد جميع العقائد في عقيدة واحدة». كما رأى في بعض الممارسات الصّابئيّة شبها غريبا بالممارسات المسيحيّة جعله قريب الاعتقاد بأنّ الصّابئة قد تكون هي «الكنيسة الشّرقيّة المنسيّة»؛ فهي تمارس التّعميد بالماء، والتكفير عن الذّنب، والقربان المقدّس، وتسعى إلى الفضيلة وعمل الصالحات والنّكران التامّ للذات، وتراعي في الجملة أوامر الوصايا العشر. إلاّ أنّها «من ناحية أخرى، تعظّم الكواكب والأجرام السّماويّة وتعتبرها أرواحا مساعدة للإله الخالق». ويذكر السّيوفي أنّ يوم الأحد هو اليوم المقدّس عند الصّابئة، فهو اليوم المخصّص للصّلاة، والزّواج، وخاصّة للتّعميد الذي كان يتمّ في مياه الأنهار (الفرات ودجلة والأردن)، وهو ما لم يتغيّر منذ آلاف السّنين على غرار تعميد «يسوع» على يد «يوحنّا المعمدان» (يحيى).
ومن هنا، كان كتاب السّيوفي غريبا في بابه وفي منحاه ممّا يجعله جديرا بالاهتمام، فقد مكّننا من اكتشاف أقليّة لا نعرف عنها الكثير، ومهدّدة اليوم بالانقراض نتيجة ما يلقاه أتباعها من صعوبات كبيرة ومخاطر على حياتهم، فعددهم يتناقص باطرّاد منذ الغزو الأمريكيّ للعراق في مارس 2003، وهجرتهم تتزايد بشكل مفزع قد يؤول إلى اندثار واحدة من أقدم الدّيانات في العالم، ومن آخر «الطّوائف» العرفانيّة فيه. وقد تعايش الصابئة مع جميع مكوّنات المجتمع العراقي عبر تاريخه الطّويل الحافل، إذ لم يجاوز تعداد أتباعها - زمن السّيوفي - أربعة آلاف نسمة حسب ما يورده هو نفسه. ونحن إذ نقدّم الفصل الرّابع من الكتاب المذكور، إنّما نقدّم شهادة على أحوال العالم الإسلامي في أواخر القرن 19 وخاصة أحوال أقليّاته، وهو ما قد يخبرنا عن أحوال الأغلبية.
أمّا الكاتب فهو نقولا بن يوسف السّيوفي (1829 - 1901 م)، ولد في 12 أفريل/أبريل 1829 في دمشق من عائلة ترتقي بنسبها إلى العرب الغساسنة الذين حكموا جنوب الشّام قبل الفتح الإسلامي. ويذكر المؤرّخ والنسّابة الشّامي عيسى اسكندر المعلوف (1869-1956 م) في بحث له بأحد أعداد مجلّة المشرق البيروتيّة لسنة 1933، أنّ عائلة السّيوفي استقرّت في دمشق خلال القرن الثامن الميلادي وأنّ منها من اعتنق الإسلام، وأنّها تخصّصت في الحدادة وعرفت بصناعتها الجيّدة للسّيوف الدّمشقية، ومن هنا اشتهارها بلقب «السّيوفي». ويبدو من خلال ما يذكره ابن العماد الدّمشقي [شذرات الذّهب في أخبار من ذهب، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 8، ص 3] أنّ الفرع المسلم للعائلة قد نبغ فيه عدّة أعلام أشهرهم: العلاّمة الشّافعي عماد الدّين إسماعيل بن محمّد السّيوفي الشّهير بخطيب جامع السّقيفة في باب توما في دمشق (833-897 هـ)، وابنه العلاّمة شمس الدّين السّيوفي الشّهير بابن خطيب السّقيفة. كما توجد في سفح جبل قاسيون بدمشق زاوية يطلق عليها اسم «زاوية السّيوفي» قد تكون نسبة إلى أحد رجالات هذا الفرع.
وقد عرّف يوسف إليان سركيس [معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، 1410 هـ، ج 1، ص 1087) بنقولا السّيوفي كما يلي: «نقولا السّيوفي: ولد بدمشق ودرس اللغتين العربيّة والفرنسيّة بمدرسة الآباء اللعازريّين، وفاق أقرانه بالعلم والذّكاء فاستخارته قنصليّة فرنسا أن يكون ترجمانا لها، وقد استخصّه الأمير الخطير عبد القادر الجزائري لأن يكون في معيّته في إحدى رحلاته إلى باريس والقسطنطينيّة. وكان في خزانتي نسخة خطّية من كتاب الأمير المذكور (ذكرى العاقل) الذي ألفه في باريس وأهدى منه نسخة للمترجم له كتب عليها بخطّ يده: (هذه الرّسالة العجالة ألفها كاتب هذه الأحرف بالتماس بعض أحبّته بباريس، وأهديت منها هذه النّسخة لعوض ولدي العزيز التّرجمان نقولا السّيوفي نفعه الله بالعلم وفتح له أقفال الفهم، لما له علينا من حقوق الخدمة وحسن الصّحبة. في 27 صفر سنة 1279 هـ). واستوطن مدينة بيروت إثر نكبة الشّام سنة 1860 م، ومكث بخدمة القنصليّة الفرنسيّة ثمّ سمّي قنصلا للدّولة المذكورة في حلب والموصل ثمّ في بغداد، وعند إحالته على المعاش عاد إلى الشّام وابتنى له مسكنا في بعبدا (لبنان) وقضى بها باقي أيّامه إلى أن وافاه الأجل المحتوم. وكان صاحب التّرجمة متضلّعا في العلوم التّاريخيّة لاسيّما في المسكوكات القديمة، وله مقالات باللّغة الفرنسيّة نشرت في المجلّة الآسيويّة بباريس، وله باللغة العربيّة لائحة تتضمّن ما ارتكبه البروسيّون في فرنسا من المظالم والسّرقات والقساوات أثناء حرب 1870 طبع في بيروت سنة 1871 م».
ويعتبر نقولا السّيوفي من أبرز مفكريّ الشّام وعلمائها الذين اتّصلوا عن قرب بالحضارة الأوروبيّة خلال النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر. ولعلّ من ميزاته قدرته الفذّة على اكتساب المعارف الأوروبيّة وتوظيفها في سبيل فهم أفضل لجذور الحضارة العربيّة. وقد أدّى هذا الانفتاح إلى نشوء نمط جديد من التّفكير وطراز مبتدع من الكتابة العربية يمكن عدّه تأسيسا للغة العربية الحديثة. وقد شارك السّيوفي بالخصوص معاصريْه نعمان قسطلي وأبو خليل قبّاني التمرّد على نمط الكتابة التّقليدي ولوك العبارات المكرورة، والثّورة على نمط الموسيقى الشّائعة في دمشق مع بداية انهيار السّلطنة العثمانية. ومن أهمّ أعمال السّيوفي باللّغة الفرنسيّة: • « Liste des monnaies musulmanes », 2 ouvrages, en 1880 à Mossoul. • « Supplément n° 1 au catalogue de monnaies arabes », publié entre 1879 et 1891, à Mossoul. • « Tableau de monnaies musulmanes (suite)», Mossoul, 1880. • « Etudes sur la religion des Soubbas leurs dogmes et leurs mœurs », Paris, 1880 .
ولم يصلنا من كتب نقولا السّيوفي المؤلّفة بالعربيّة سوى كتابه «مجموعة الكتابات المحرّرة على أبنية الموصل وقلعتها»، وهو كتاب شديد الأهميّة ويعدّ مرجعا في علم الآثار الخاصّة بمنطقة الموصل، وقد حقّقه المؤرّخ العراقي سعيد الديوة جي، وطبع سنة 1956 بمطبعة شفيق ببغداد.
ويبدو نقولا السّيوفي من خلال كتابه حول «الصبّة» الذي نترجم فصله الرّابع، مسيحيّا ملتزما، وهو ما لا يقدح فيه بقدر ما يلزمنا بالحذر في ما ينقله ملوّنا بمنظاره الدّينيّ التّبشيريّ وقصده البيّن الذي عبّر عنه في كتابه في «إثبات مسيحيّة الصّابئة»، وهو ما يدخل عمله في باب «الاستشراق» وإن كان كاتبه عربيّا صرفا. ونحن نرى أنّ التزام السّيوفي الدّيني ذاك ربّما كان وراء تجنّسه بالجنسيّة الفرنسيّة وخدمته موظّفا ساميا لدى فرنسا التي لم تكن تخفي آنذاك أطماعها في الشّرق العربي، وهو ما يعضده تولّيه إثر تقاعده من الوظيفة منصب القاصد الرّسولي للفاتيكان في بيروت ابتداء من سنة 1894 وإلى حين وفاته.
وتندرج ترجمة هذا الفصل ضمن اهتمامنا بترجمة النصّوص التي تطرح مسائل المقدّس والدّيني، وهي مساهمة لها حدودها ولكنّنا نؤمن بضرورة المساهمة بمثل هذه التّرجمات في إثراء معرفتنا بأنفسنا، إذ الصّابئة منّا وإلينا بل ربّما هي أصلٌ مؤسّس لكياننا الحضاري رغم اختلاف الأديان والعقائد. ومن هنا يضعنا هذا العمل أمام منهج نقارن فيه بين النّصوص الدّينيّة وذلك في إطار مشروع بين مترجمي هذا النصّ للسّيوفي يهدف إلى تعريب بعض النّصوص المفاتيح وطرحها موضوع بحث على القارئ والباحث العربي.
أمّا اختيارنا لهذا الفصل بالذّات من كتاب السّيوفي فيعود أساسا إلى طرحه ثلاث إشكاليّات تاريخيّة نظنّ أنّها لم تأخذ حظّها بعد من الدّرس: * إشكالية هيكل الصّابئة في مدينة القدس وحقوق هذه الدّيانة مثل غيرها في المطالبة بإرث تاريخي فيها. * قضيّة ملاحقة اليهود للصّابئة وتقتيل كهنتهم ممّا منعهم من التّزاوج والتّكاثر وهدّدهم بالانقراض. * ملاحقة المسلمين لهم في بعض الفترات ممّا يطرح قضيّة حدود التّسامح في التّاريخ الإسلاميّ وضرورة القيام بنقد ذاتي حيال ما يمكن أن يعتبر مركزيّة حضاريّة. ودون الدّخول في تفاصيل هذه الإشكاليّات، فإنّ ما نؤكّد عليه بالخصوص أنّنا لم نسع من خلال هذا العمل إلى استفزاز شعور أيّ كان، كما نؤكّد احترامنا لخصوصيّات جميع الثقافات. ملاحظة بخصوص الهوامش: وضعنا هوامش النصّ الأصلي بين نجمتين** وهوامش المترجمين بين قوسين(…).
***
الفصل الرّابع: أحداث عرفها «الصبّة»(1) بعد موت «يحيى» - أميرة يهودية تتحوّل إلى دين الصبّة - غضب والد هذه الأميرة – مناظرات بين علماء اليهود وعلماء الصّبة – إفحام العلماء اليهود – تقتيل الصّبة – إغراق جمع غفير من اليهود – تدمير القدس – انتقال الصبّة إلى موطن جديد – تكريس كائن سماويّ لاثنين من الملوك – ظهور موسى نبيّ العبريّين – إعلان ملوك الصبّة الحرب على موسى – هروب موسى وأصحابه – انشقاق البحر لهم كي يمرّوا – جيش الصبّة يلاحقهم ويغرق في لجّة الأمواج – نجاة قلّة منهم من الغرق -الصبّة دون كهنوت – ظهور آدم أبو الفرج، الملك الحبر – رعيه الغنم - مفارقته الصبّة ليعيش في مندلي – اضطهاد المسلمين للصبّة – تعصّب رئيس المسلمين وممارسته السّحر – اكتشاف الصبّة انسحاب حبرهم – إرسال سفيرين لطلب مساعدته – حضور الحبر إليهم بصفة خارقة – إبطاله سحر رئيس المسلمين- معجزاته – تخليصه الصبّة – مفارقته الصبّة من جديد - تجدّد الاضطهاد – نزاع حادّ بين صابئ ومسلم – التّبعات السيّئة لهذا النّزاع – بقاء الصّابئة طويلا دون كهنوت ودون زواج – إقامة كهنوت – جوائح – إبادة الكهنوت مرّة أخرى وتنصيب كهنوت جديد – طرق هذا التّنصيب السّارية إلى أيّامنا.
***
حين فارق «يحيى» هذا العالم، ترك في الصّابئة ثلاثمائة وستّة وستّين مريدا جميعهم «كنزفرة» أو «ترميذة»، أساقفة وكهنة. وقد تابع الصّابئة عيشهم في مدينة القدس في وئام تامّ مع «أليعازر» وأتباعه [اليهود] الّذين كانوا يفوقونهم عددا. وقد كان معبد(2) الصّابئة حذو بيعة اليهود، وكان الجميع يتكلّم لغة واحدة. وقد كانت لأليعازر بنت اسمها «مريم» (3)، وكانت أميرة تَقِيَّة تتردّد يوميّا على البيعة وتحظى بمحبّة الجميع. وذات يوم سهت الأميرة وبدل أن تدخل البيعة دخلت معبد الصّابئة، فوجدتهم يُؤدّون صلاتهم، ولم تتفطّن إلى خطئها إلاّ بعد أن وجدت نفسها داخل المعبد. ومع ذلك، بقيت داخله ولم تغادره إلاّ بعد انتهاء الصّلاة. وقد رافقها الأساقفة والكهنة إلى الباب حيث شكروها وسألوها عن سبب تشريفهم بالزّيارة، فأجابت بقولها: «لم أكن أقصد ذلك ولم أرده، لكنّه نتيجة سهو، فعوض أن ألج باب الكنيس جئت إليكم، ولم أتفطّن إلى الأمر إلاّ بعد دخولي المعبد، ولكنّني لست نادمة على خطئي، لأنّ صلواتكم وأناشيدكم أثّرت فيّ». ومنذ ذلك اليوم، مالت «مريم» إلى دين الصّابئة وأضحت تختلط سرًّا بزوجات «الكنزفرات» و«التّراميذ» كي تأخذ عنهنّ دينهنّ. وبعد التمكّن من لسان الصّابئة (4) والاطّلاع على الشّرائع والأحكام الموجودة في كتبهم، تخلّت الأميرة عن ملابسها ومجوهراتها وتزيّت بلباس أبيض كما ينبغي لصابئة صالحة. وبما أنّها كانت تذهب كلّ يوم أحد إلى المعبد، فقد سألتها أمّها باستغراب عن تصرّفها، فما كان منها إلاّ أن أجابت بقولها: «لقد تخليّت عن دينكم واعتنقت دين الصّابئة».
وحين أخبرت الأمّ زوجها «أليعازر» بمقال ابنتها، سارع باستدعائها وسؤالها. إلاّ أنّ الأميرة لم تنكر الأمر، بل ثبتت على موقفها رغم تهديد والدها ووعيده، وحسمت الجدل بأن طلبت من والدها إحضار جمع من كهنة وعلماء الإسرائيليّين لتناظرهم، على أن يعتنق المُفْحَم دين الآخر.
وحين المناظرة، لم تصمد المعارف العبريّة الواسعة أمام ما قدّمته المؤمنة الجديدة من براهين ساطعة، وقد أنهت كلامها بأن توجّهت إلى والدها بهذه الكلمات: «إنّ قوّتك وثرواتك لا تستهويني. سأتخلّى لك عن جميع هداياك من الحليّ، فما هي سوى أشياء عابرة لا قيمة لها، من أجل أن تكون الحياة الآخرة كلّ همّي». وعند سماعه هذه العبارت، انقضّ «أليعازر» على ابنته كي يقتلها، لولا أن خلّصتها أمّها العطوف من بطشه. وهكذا ثبتت الفتاة على دين الصّابئة، ودرست تعاليمه بعمق حتّى غدت معارفها تضاهي معارف أيّ «كنزفرة». وأمام العجز عن كبح جماح غضبه من جهة، والخشية من أن يحمل مثال ابنته بعضا من طائفته على اعتناق الصَّابئيّة ، جمع «أليعازر» في أحد الأيّام أعيان اليهود وأطلعهم على مخاوفه وأنّ الوسيلة الوحيدة لتجنّب هذه الطّامة الكبرى هي قتل الصّابئة. وقد رحّب من في المجلس بهذا الرّأي وأجمعوا على وجوب تذبيح الصّابئة، وقاموا إثر ذلك باستنفار اليهود الّذين انقضّوا على الصّابئة وقتّلوهم جميعا باستثناء «مريم» الّتي وضعتها أمّها تحت حمايتها وعدد قليل ممّن تمكّنوا من مخاتلة خناجر القتلة. وفي تلك اللّحظة ظهر «أنّش أثرا»، في صورة نسر، وضرب بجناحيه ملقيا اليهود في النّهر، ثمّ حرّك مياه النّهر بجناحيه، فعظمت أمواجُهُ وأغرقتهم جميعا. وعلى الإثر، لحق «أنّش أثرا» بفلول الهاربين من الصّابئة الذين انضمّوا بتشجيع منه إلى «مريم» ويمّموا شطر مدينة القدس لهدمها بأكملها. ثمّ ساقهم بعد ذلك نحو موضع آخر استقرّوا به وأقام لهم عددا من «الكنزفرات» و«التراميذ». وحين أراد أن يفارقهم، طلبت منه «مريم» مصاحبته إلى « آلمي د نهورا » (عالم النّور) معبّرة عن عدم رغبتها في البقاء في هذا العالم. وأجابها «أنّش أثرا» بقوله: «إنّ الوقت لم يحن بعدُ كي تفارقي هذه الحياة، لكن تأكّدي أنّك ستفارقينها يوما، وسيكون مقامك بمكان هو من الرّفعة إلى حدّ يجعلني أحسدك عليك». فسألت «مريم»: «وما هو ذاك المكان؟» فأجابها الملاك «حالما تحًلّين في «آلمي دنهورا»، ستنعمين بصُحبة «سيموث حيّ» *5* إلى أبد الآبدين، وهي تجلس بجانب «مريم إيداربوثو»، وإنّي لأرجو أن تذكريني حينها». ورغم إلحاح «مريم» في الذّهاب معه، إلاّ أنّ توسّلاتها ذهبت أدراج الرّياح. وقد اختار «أنّش أثرا» قبل أن يترك الصّابئة ويعود إلى «آلمي د نهورا» (عالم النّور) أخوين من بينهم ونصّبهما ملكين يدفعان عن الملّة صولة الأعداء، وكان اسم الأكبر «فرّوخ ملكا» والأصغر «أردبان ملكا».
وقد حدث بعد عودة «أنّش أثرا» إلى الجنّة، أن تكاثر اليهود والصّابئة وازدادت أعدادهم، حتّى أنّ الصّابئة أصبحوا أكثر عددا ممّا كانوا عليه زمن «يحيى». وفي هذا الوقت، ظهر «موسى» نبيّ العبريّين *6* الّذي قرّر أن يثأر لليهود الّذين أبادهم «أنّش أًثرا»، وهو ما صادف من جهة أخرى رغبة «فرُّوخ مَلْكا» في الثّأر للصّابئة الّذين قتَّلهم «أليعاز» لولا أن أرسل إليه «أباثر» رسالة تمنعه من محاربة «موسى» وتأمره بمغادرة البلاد مع جماعته في الحين والاستقرار في مكان آخر. إلاّ أنّ ملك الصّابئة لم يعر هذا الأمر السماويّ اهتماما، وأعلن الحرب على اليهود. وحين التقى الجيشان، تواجه القائدان (فرّوخ ملكا وموسى) في براز طويل انتهى بهروب «موسى» ومن معه، إلاّ أنّه لم يكن بوسعهم الهروب بعيدًا لأنّ البحر كان يعترضهم، فما كان من موسى إلاّ أن دخل عباب البحر الذي انشقّ إلى نصفين كاشفا عن طريق في الوسط. وقد وقف موسى وسط البحر الّذي بقي منشقّا *7* إلى حين عبور جميع عسكره، وكان هو آخر من عبر. وكان أن تبعهم «فرّوخ ملكو» مع جيشه الّذي كان يقوده بمعيّة أخيه، وفي الوقت الّذي عبر فيه موسى البحر إلى اليابسة *8*، اجتمع طودا الأمواج من جديد، فغرقت جيوش «فرّوخ ملكا» عن بكرة أبيها ولم ينج سواه إذ تمكّن من بلوغ اليابسة صحبة أخيه وثلاثين من الصّابئة (من الرّجال والنّساء)، تقريبا في نفس الوقت الّذي بلغ فيه موسى اليابسة.
وحين لاحظ موسى أنّ جيوش العدوّ ابتلعها الطّوفان (9)، طفق يلاحق العدد القليل ممّن نجا من الصّابئة. إلاّ أنّهم أفلتوا منه، ولم يتوقّفوا إلاّ في «شُوشتر» (في فارس). وهناك، ترك الأخوان [فرّوخ – ملكا وأخوه] رفاقهما التّعساء، وتابعا المسير نحو «مْشُوني كُشْطا». وبعد وصوله بفترة قصيرة، مات «فرّوخ ملكا». وحين صعدت روحه إلى «أباثر»، لامه لوما لاذعا على عدم تنفيذ أوامره وتسبّبه في هلاك الصّابئة بإشهاره الحرب على موسى، ثمّ أرسل تلك الرّوح إلى «الْمَطَراثا» كي تتطَهّر من خطيئتها.
بيد أنّ الصابئة الّذين استقرّوا في «شُوشْتر» كانوا يفتقرون إلى كهنوت، ولم يكن يمكنهم بالتّالي الزّواج. ولتفادي هذا الخلل، قاموا باختيار بعض فضلائهم للتكفّل بمهامّ الكهنة (تَرْمِيدُهْ)، دون أن يتوصّلوا إلى ملء رتب الكهنوت الشرعيّة والدّائمة التي كانوا في حاجة إليها. ورغم ازدياد عدد الصّابئة مع مرور الزّمن، إلاّ أنّ وضعهم كان غير طبيعيّ، إذ وقعوا في جهل ديني كبير نتيجة غياب رجال الدّين. وفي تلك الحقبة، أرسل إليهم شخص فاضل اسمه «آدم أبو الفرج». وكان «آدم أبو الفرج» بعد خروجه وزوجته من بلده «مْشُوني كُشْطُُُُهْ» قد توقّف لبعض الوقت في مدينة «مَنْدَلِي» *10*، قبل أن يذهب إلى«شُوشْتر». وهناك حرص على ألاّ يعرفه أحد من الصّابئة حتّى أنّه أجابهم حين سألوه عن مهنته: «أنا راع»*11*، ومن هنا ذهب في روع الصابئة أنّه راعي مواش، فأقاموه راعيا للأبقار*12*. وَقد ارتضى القيام بهذا العمل الوضيع دون أن ينبس ببنت شفة، وتابع مع زوجته حياة شديدة الغموض لكنّها شريفة، وكانا في جميع تصرّفاتهما وهيئتهما مثالا لما ينبغي أن يكون عليه الصّابئة الصّالحون.
وفي أحد الأيّام، تعرّضت زوجة «آدم أبو الفرج» إلى سخريّة بعض صديقاتها، وعيّرنها بلبس زوجها الدّائم للبياض*13*، إذ هو أبسط الألوان وأكثرها تداولا، وبأنّه يمنعها من لبس الحليّ. وحين عاد آدم إلى بيته مساء، وجد زوجته حزينة *14* على غير عادتها، فسألها عن سبب حزنها. وحين أعلمته السّبب، رجاها أن تعدّ له عجينتين، واحدة من دقيق القمح وأخرى من دقيق الشّعير. وحين أعدّت ذلك، صنع «آدم أبو الفرج» من العجينة الأولى سوارين كبيرين تحوّلا في طرفة عين إلى ذهب خالص، كما صنع سوارين من عجينة الشّعير انقلبا هما أيضا إلى فضّة خالصة. وأعطى «آدم أبو الفرج» زوجته الأسورة، فتزيّنت بها في الحين قبل أن يطلب منها أن تأتيه بكتاب اسمه «كنْزا رَبّا» *15*، ويأمرها بقراءة الفقرة الّتي تتعلّق بما يحلّ بالمتزيّنين بالحليّ من عقوبات. وما أن قرأت تلك السّطور حتّى سارعت بنزع أسورتها وإلقائها بعيدا قبل أن تطلب عفو «أَلَهَا»،عمّا ارتكبت من ذنب.
وبعد مدّة من ذلك، التقى «آدم أبو الفرج» امرأة مُسِنّة وهي تبكي بكاء مرّا، فسألها: «لم تبكين؟»، فأجابته: «لقد توجَّهت أكثر من مرّة إلى الكهنة أرجوهم نسخ(16) أحد كتبنا، وكانوا يرفضون ذلك على الدّوام ممّا يمنعني من إنجاز أمر عظيم الثّواب». فقال لها: «كفّي عن البكاء، فأنا مستعدّ لتلبية رغبتك، عودي إليَّ بعد ثمانية أيّام وستجدين كتابك»، فقالت له: «كيف يمكنك أن تنسخ في ثمانية أيّام كتابا يتطلّب نسخه شهرين على أقلّ تقدير؟»، فأجابها: « هذا الأمر لا يعنيك، عودي بعد ثمانية أيّام، وسيكون الكتاب جاهزا». وسألته المرأة: «وكم ستأخذ منّي مقابل هذه الخِدمة؟» فأجابها: «اعْطِنِي ما تريدين». وجاءت المرأة بعد ثمانية أيّام إلى آدم أبي الفَرَج، فَسَلَّمَها الكتاب الّذي نَسَخَهُ، وكان خطّه بديعا. وقد كتب في آخره بعد ذكر تاريخ النّسخ *17* بضعة أسطر افتتحها بعبارة «أي شيشتريو باغيونو»، وهي : «أيّها الشُوشْتَرِِِِيُّون الظّلمة، لقد جئت كي أرعاكم لا لرعي المواشي، لكنّكم لم تعرفوني، ولهذا أترككم لأذهب إلى مندلي. وإذا ما تعسّرت أحوالكم، فما عليكم إلاّ أن تجيؤوني»*18*.
وتسلّمت المرأة المخطوطة والفرح يغمرها، وأعطت آدم مالا مقابل خدمته، ومن ثمّّ غادر مباشرة نحو «مَنْدَلي». غير أنّه كان لمسلمي «شُوشْتر» رئيس شديد التعصّب والخبث يدعى «محمّد غولخوار» (أو آكل الورد) تمكّن بخزعبلاته من استمالة قلوب الأتباع. وقد أمر في أحد الأيّام بإحضار الصّابئة، وحاول إجبارهم على اعتناق الإسلام. وأمام رفض الصابئة قال لهم: «سآتي أمامكم بعض الخوارق، إذا أتيتم بمثلها لكم أن تحتفظوا بدينكم وإلاّ طالبتكم بالدّخول في ديني». وقد أقرّ الصّابئة بعجزهم عن مجاراته، ورجوه الكفّ عنهم، إلاّ أن السّيف سبق العذل وكان عليهم الرّضا بما قسم لهم. وبدأ «محمّد في إظهار معجزاته، فأخذ حبلا صيّره حيّة وأمسك بذيلها وأمرها بلدغ أحد كهنة الصابئة، فأصابته بلدغة سامّة. ثمّ وقف فوق ركام من الصّخور فاستحال أسدا مرعبا. ثمّ أطلق الأسد واتّجه نحو النّهر، وهناك ألقى على الماء الجاري سجّادة صلّى فوقها دون أن تغوص به في الماء. وبعد هذه المعجزات الثّلاث، طلب محمّد من الصّابئة الإتيان بمثلها، فبُهتوا ولم يحيروا جوابا وسألوه مهلة للتّفكير. وقد منحهم رئيس المسلمين مهلة أربعين يوما، فعادوا أدراجهم والغمّ يملأ قلوبهم. وقد كان في هذا الأمر فرصة للعجوز الّتي تقدّم الحديث عنها للسّخرية من بعض كهنة الصّابئة إذ قالت لهم: «لقد قدرتم على أن تقسوا على امرأة مسكينة مثلي حين رفضتم نسخ الكتاب الّذي طلبته منكم، إلاّ أنّكم انهزمتم أمام ساحر، آه لو كان ناسخ كتابي هنا، لأبان من الشّجاعة فوق ما أظهرتم في هذا الموقف المخذل!»، فسألها الكهنة «ومن نسخ لك هذا الكتاب؟». فأجابت المرأة: «إنّه الرّاعي الّذي غادرنا منذ زمن قريب». ولم يصدّق الكهنة أن يكون راع عارفا بالكتابة، وطلبوا منها أن تريهم المخطوط. ولمّا تسلّموه من المرأة، وجده الكهنة جيّد الخطّ، وتصفّحوه إلى أن بلغوا خاتمته، فوجدوا العبارة الأخيرة الّتي وضعها «آدم أبو الفرج» لأجل الصّابئة. وحينها، تفتّحت أعينهم وأيقنوا أنّ راعي المواشي لم يكن كأحد من النّاس، وأنّه وحده القادر على تخليصهم من مضطهدهم، وعلى الفور أنابوا إلى «أَلَهَا» طلبا للتّوبة عمّا اقترفوه بلا قصد في حقّ الرّجل الصالح الّذي لم يشأ إعلان نفسه، وأرسلوا اثنين من فتيانهم الأشدّاء الخفاف كلّفوهما بالذهاب إلى «مندلي» يترجّيان «آدم أبي الفرج» أن يسارع في نجدتهم. وقد دخل الشّابان منزل «آدم أبي الفرج» وعرضا عليه ما يحدق بالصّابئة من أخطار وطلبا منه نسيان الماضي والعمل على خلاصهم، فقال لهما: «اطمئنّا، سنخرج معا اللّيلة، كي نخلّصهم»، فأجاباهُ: «لا يمكننا أن نصل في الوقت المحدّد، فقد قضينا ثلاثين يوما في الوصول إلى هنا، ولم يبق سوى يومين فحسب قبل حلول الأجل الّذي سيتمّ فيه غََََصْب الصّابئة على الدّخول في الإسلام». فقال لهم الرّاعي السّابق: «لا خوف عليكم».
وحين جنّ اللّيل، صلّى «آدم أبو الفرج» مع الشّابين المُرسلين صلاة قصيرة إلى «آلَهَا» كي يعينهم، قبل أن ينطلق ثلاثتهم في المسير كامل اللّيل. وكم كانت دهشة الشّابين كبيرة حين وجدا نفسيهما عند الفجر قرب نهر يشبه نهر بلدهما «شوشتر». فصاحا قائلين: «أليس هذا نهرنا ؟». وفي تلك اللحظة لمحا مدينتهما، فسألا: «هل بلغنا شوشتر في مسيرة ليلة واحدة ؟» فأجاب «آدم أبو الفرج»: «نعم، لقد بلغناها بِعََوْنِ آَلَهَا». وحينها، سارع الشّابان بحمل البِشارة إلى الصّابئة الذين خرجوا جميعا رجالا ونساءً للقاء مُخَلِّصِهِمْ. وعندما وصلوا إليه ارتموا عند قدميه طالبين الصّفح عمّا اقترفوه في حقّه حين جاءهم في المرّة الأولى، واحتفوا به أشدّ الاحتفاء وأكرموه غاية الإكرام عند دُخوله المدينة. وفي الغد، وقد كان آخر أيّام الأجل المُحدّد، أرسل رئيس المسلمين في طلب الصّابئة، فجاؤوه مع «آدم أبي الفرج». وحين عاود محمّد مرّة أخرى تخييرهم بين الاتيان بمعجزة أو الدّخول في الإسلام، تدخّل «آدم أبو الفرج» وقال له: «أنا رئيس الصّابئة، وقد وصلت البارحة إلى هذه المدينة. وبما أنّني لم أشهد معجزاتكم، فإنّي أرجو أن تكرّروها أمامي، وسأُريكم بعد ذلك معجزاتي».
وافق محمّد على طلبه، وكرّر القيام بما سبق أن قام به في المرّة السابقة. وحين وجّه الأفعى الّتي كانت قبل برهة حبلا نحو آدم، أمسكها هذا بيده ووبّخها بقوله: «ها أنت تخضعين إذن أيّتها اللّعينة لأوامر ساحر!». وعند سماعها هذه الكلمات، عادت الأفعى حبلا كما كانت من قبل. أمّا حين وجد أبو الفرج نفسه في مواجهة الأسد الّذي يمتطيه المُسلم، فقد وجّه صفعة للوحش ولامه أيضا، وعندها عاد إلى صورته الأولى، كومة من الحجارة.
ودون أن يفقد الأمل، اتّجه رئيس المسلمين ناحية النّهر تتبعه جَمهرة من المسلمين والصّابئة، وألقى سجّادته على الماء وقام يصلّي فوقها، فصاح آدم مهدّدًا النّهر: «حتّى أنت أيضا تنساق لأوامر ساحر!» وعند هذه الكلمات، غطس محمّد وسجّادته في القاع ولم يفلت من الغرق إلاّ بصعوبة، وخرج من النّهر في حالة من الإزراء والارتباك الشّديدين. وعند هذا الحدّ، قال «آدم أبو الفرج» لمحمّد: «والآن حان دوري حتّى أُريك معجزاتي»، وطلب نواة تَمْرَةٍ، غسلها سبع مرّات في الماء ثمّ وضعها في الأرض على حافّة النّهر، وقام يصلّي إلى «أَلَهَا»، وإذ بالنّواة تنبت برعما أخضر أمره آدم أَنْ يَنْمُو، وفي طرفة عين غدا نخلة تربو على قامة رجل. ثمّ أمر آدم النّخلة أن تمْتَلئ ثمرًا، فَزَرَّرَتْ في الحين زهورا كثيرة لقحت في التوّ دون أيّ تأبير من لقاحٍ ذكوريّ وتحوّلت إلى عراجين تَتَدَلَّى ذات اليمين وذات الشِّمَال تحت وطأة الغلال النّاضجة. وحينها، طلب رئيس الصّابئة من محمّد ارتقاء النّخلة وأن يقطف من ثمرها ويرمي منه إلى الحَشْدِ. ولمّا صار محمّد على رأس النّخلة، أمرها آدم بالتّطاول وصَاحَ بها: « سَاْندَارْكَا سُوقْ» (يا نخلة ارتفعي!)، فارتفعت نحو السّماء إلى علوّ عَجيب، وحينها أَمَرَ آدم الفُروع الّتي تُغطّي رأس النَّخلة بالالتفاف حول المسلم المتعجرف وإحكام الضّغط عليه، ونادى رَيَحا الشّمال والجنوب كي تعصفا بالتّوالي وبشدّة إلى أن تحني النّخلة حتّى تلامس الأرض مع كلّ هبّة. ولمّا اشتدّ الأمر على رئيس المسلمين التَّعِس وصار جميع جسمه مرتعدا، صاح بكلّ قوّته وتوسَّل إلى آدم أن يضع حدّا لعَذاباته واعدًا بألاّ يتعرّض للصّابئة أبدا. وهنا أمر «آدم أبو الفرج» الرِّيَاحَ بالتوقّف، ففعلت وَسَكَنَتِ النَّخلَةُ، وحينها قال آدم لمحمّد: «إذا أردت النُّزول سالماً، فاجمع أعيانَ طَائِفَتِكَ وعُلََمَاءَها هنا، ولتكتب معهم عهدا بعدم التعرّض للصّابئة». وأرسل محمّد في طلب العلماء، فقدموا وأمضوا مع رئيسهم كتاب العهد على ورقة بردي وضعت بين يَدَيْ آدم الذي سلّمها بدوره إلى كهنة الصّابئة قبل أن يستدير ناحية النّخلة ويصيح فيها: «سَاْندَارْكَا، نْْْْهُوتْ!» (يا نخلة اهْبِطي!). وابتدأت النّخلة بالتّقاصر إلى أن نزل رئيس المسلمين أرضا، وواصل آدم ترديد كلمة «نهوت» (اهبطي) والنّخلة تتقاصر وتتقاصر إلى أن دخلت الأرض وغدت نواة كما كانت قبل أن تُزْرَعَ. وعندها أخرجها «آدم أبو الفرج» ووضعها في يد محمّد، فارتمى هذا عند قدميه مجدّدا ووعده بعدم التعرّض للصّابئة. ولمّا انتهى الأمر، عاد كلّ إلى بيته.
وإكراما لآدم أبي الفرج، نحر الصّابئة واحدا من أجمل ثيرانهم وليمة طعام. وحين سألهم لم ذبحوا الثّور، أجابوه: «هذا لعشائك». وعندها أمرهم يإلقاء ذلك اللّحم في النّهر ونَبَّهَهُم إلى أنّ لحم الثّور محرّم عليهم أكله. وفي الغد، وكان يوم أحد، عمّدهم جميعا كبارًا وصغارًا، وأحضر كتابا تلا منه عليهم الآية التي تحرّم على الصّابئة أكل لحوم الأبقار. وبعد أن أقام بينهم مدّة يفقّههم في دينهم، اقترح عليهم مغادرة بلدهم ليعيشوا في مكان آخر، وهو الاقتراح الذي ما كان ليقدّمه لولا خوفه من تعرّضهم لأذى المسلمين مجدّدا. لكنّ الصّابئة أخبروه بما ينجرّ من خسارة لو فرّطوا في ممتلكاتهم وتجاراتهم، فاستقرّ الرّأي على المكوث حيث هم. وكَرَّسَ آدم «كنزفرات» وأقام «تراميذ» عند الصّابئة، وبذلك نشأ عندهم كهنوت شرعيّ؛ ثمّ ودّعهم ليعود إلى «مشوني كُشْطُهْ». وقد فرح المسلمون بمغادرته، ولم يطل الأمد حتّى عادوا إلى التعرّض إلى الصّابئة واضطهادهم وسومهم سوء العذاب، فقرّر الصّابئة مغادرة البلد حيث ذهبت قلّة منهم إلى «دزفول» ليستقرّوا بها دون أن يصحبهم أي «ترميذه» (طالب علم) أو كاهن، بينما توجّهت الأغلبيّة مع كهنوتهم إلى نهر «كارون» قرب مدينة «المحمّرة»، وهناك عاشوا طويلا في انسجام مع مسلمي ذلك البلد(19).
وفي أحد الأيّام (منذ مائتي سنة خلت)، حدث أن دخل صابئيّ في خصومة حادّة مع مسلم، وشتم المسلم «يَحْيى»، فردّ الصّابئي بشتم النبيّ محمّد*20*. وعلى الإثر استنفر المسلم بني ملّته فقدموا من كلّ حدب وصوب للردّ على هذه الإهانة، ولحق الصّابئة بدورهم بابن ملّتهم وقامت معركة ضارية بين الجانبين. ومع أنّ عدد المسلمين كان يفوق بكثير عدد الصّابئة، إلاّ أنّ كلّ صابئيّ كان يقتل ثلاثة أو أربعة مسلمين قبل أن يموت، بحيث مات من المسلمين عدد أكبر ممّا خسر الصّابئة. إلاّ أنّ كثرة عدد المسلمين رجّحت كفّتهم، فقتلوا معظم الصّابئة باسثناء عدد قليل منهم التحق بأهل طائفتهم بمدينة «دزفول»، لكنّهم ظلّوا معهم خمسين سنة دون زواج بسبب افتقادهم الكهنة المخوّلين وحدهم عقد القرانات. وانتهى الأمر بأن اجتمع الأعيان في أحد الأيّام ليقرّروا بعد النّظر في كتبهم اختيار بعض الأشخاص الأفاضل ليقوموا بمهامّ «الكنزفرة» و«الترميذة». وما إن باشر هؤلاء مهامّهم الجديدة، حتّى احتكروا صفة الكهنوت لأنفسهم على عكس ما كان يقتضيه العدل، ومنحوا أنفسهم حقّ التمتّع بتلك المراتب وتوريثها لأولادهم، وهو ما جعل غيرهم لا يجاوز مرتبة «اشْكَنْدُهْ»*21*.
وتواصل الأمر على ذلك الحال إلى أن حَاق الطاعون الأَكْبَر سنة 1831 بفارس وبلاد الرّافدين وَعَاثَ في البلاد فسَادًا، وهلك فيه جميع المنتمين إلى الكهنوت. وهنا اضطرّ الصّابئة من جديد إلى البقاء دون زواج طيلة عشر سنوات في ظلّ غياب كهنة يَعْقِدُونَهُ، وهو ما دفع بهم خلال هذه المدّة إلى الهجرة من «دزفول» إلى «شوشتر». بَيْدَ أنّ عددا من الصّابئة سبق لهم أن سكنوا منذ فترة طويلة في بلدة تسمّى «سوق الشّيوخ»*22*، لكنّهم كانوا بدورهم دون كهنة فأرسلوا جمعا من أعيانهم إلى «شوشتر» رجعوا ومعهم كاهنان برتبة «اشكنده» هما: «الشّيخ عبد الله» و«الشّيخ بولاد» (جدّ معلّمي)، وقد كان الأوّل أعزب، أمّا الثّاني فقد جاء مع زوجته وأبنائه.
ولمّا تمّ ذلك، سعى أولئك الوجهاء إلى لقاء شيخ قبيلة «المنتفق» البدوية حاكم تلك المنطقة حاملين معهم هدايا، وطلبوا منه السّماح لهم ببناء «مندي» وتكريس كهنة فيه. وبعد الحصول على الإذن، كرّس «الشكندان» المذكوران ثلاثة «شكندات» آخرين لقّناهم واجبات الكهنوتيّة، ومن ثمّ اجتمع «الشكندات» الخمسة وتشاوروا فيما بينهم واختاروا «الشّيخ عبد الله» وكرّسوه «تَرْمِيذه»*23* ليكرّس بدوره ثلاثة منهم «ترميذه» وهو ما رفع عدد «التراميذ» إلى أربعة. ولم يبق بذلك على الصابئة إلاّ أن يُكرّسوا «كنزفرة» (أسقف)*24*. وقد تمّ الاختيار أوّلا على «الشّيخ عبد الله»، لكنّه اعتذر، فوقع الاختيار بعد مداولات على «ترميذه» آخر اسمه «عزيز» تمّ تكريسه «كنزفْره» ليقوم فور تسلّمه مَهامَّهُ بعقْد زيجات عديدة في صفوف الصّابئة. وبعد وقت قصير توفّي «الكنزفره» الجديد، وتعاقب «الكنزفرات» إلى اليوم*25*.
الهوامش
(1 ) الصّباة أو الصُّبّة أو الصّابئة أو الصّابية: تسميات شائعة للطّائفة المندائيّة في العراق.
(2) يستخدم السّيوفي هنا لفظ "كنيسة" وكأنّه يريد الانتصار للأطروحة القائلة إنّ الصّابئة مجرّد طائفة مسيحيّة مهرطقة وهو رأي روبار ستال (Stahl) وألفريد لوازي (Loisy)، مقابل الأطروحة الزّاعمة أنّهم طائفة منشقّة عن اليهوديّة وهو رأي باكلي (Buckley). وهيكل الصّابئة يدعى "المَنْدى"، ولا ندري إن كان وصفه بالكنيسة ينمّ عن نَفَس استشراقي عند السّيوفي أو إنّه أسقط ثقافته المسيحيّة على هيكلهم وأسماه كنيسة. وقد فضّلنا عبارة "معبد" لأنّها أكثر حياديّة وأقلّ إحالة على المسيحيّة.
(3) هي "موريو" في النّطق المندائي، وهي أيضا "مرياي" حسب ما جاء في كتاب "مواعظ و تعاليم يحيى"، ط 1، بغداد، 2001 ، ترجمة أمين فعيل حطاب، وهو عمل مصادق عليه من مجلس عموم الطائفة المندائيّة: "ويل لليهود الذين يضطهدون مرياي. ويل لأليزار كاهن المعبد الذي ثبّت بيت المقدس. ويل لزاتان الكاهن الذي شهد زورا ضدّ مرياي" (ص 102). وقد اخترنا إيراد الإسم "مريم" كما رسخ في النّطق العربي.
(4) ألم يكن الصّابئة واليهود يتكلّمون نفس اللّغة كما ورد في أوّل النصّ: «وكان الجميع يتكلّم لغة واحدة» ؟ وكيف تحدّثت مريم مع أحبار اليهود إذن ؟ نظنّ أنّ في هذه الأسطورة إشارة إلى الأصل الواحد للّغة المندائيّة واللّغة التي كتب بها اليهود أوّل نسخ توراتهم وهي الآراميّة.
*5* «سيموث حيّ» هي سيّدة نساء الجنّة (والمقصود هنا هو جنّة الصّابئة المندائيّة - المترجمان).
*6* يعتقد الصابئة أنّ مشرّع اليهود (موسى) لم يظهر إلاّ بعد «يَحْيى»، وقد نبهت مُعَلّمِي إلى هذا الخطأ التّاريخي فقال: «هذا ما جاء في أسفارنا».
*7* كانت المعجزة خاصّة بموسى دون قومه، ولو سبق جيشه وخرج من البحر قبله لغرق الجيش.
*8*هذا خطأ يصعب فهمه، فقد خَلُصَ الصّابئة إلى أنّ ملكهم هو «فرعون» التّوراة، ولاحظت ذلك لمعلّمي فقال: «لم أقرأ التّوراة، لكنّي أقصّ عليك ما جاء في أسفارنا».
(9) يطلق المندائيّون على هذه المناسبة اسم "عاشوريّة" وهو يوم حزن يقرؤون فيه الفاتحة (لوفاني) على أرواح المصريّين الذين غرقوا في البحر الأحمر عند مطاردتهم موسى وأتباعه. ومعلوم أنّ المندائيّين الحاليّين يعتقدون أنّ المصريّين القدامى كانوا على ملّتهم، وهذا نفس ما درجت على ذكره المصادر الإسلاميّة أيضا.
*10* مَنْدَلِي، مدينة صغيرة على بعد 15 أو 18 ساعة من بغداد.
*11* يقصد آدم أبو الفرج بكلمة رَاعٍ (pasteur)، رعاية النفوس لكن الصابئة أخذوا الكلمة في معناها الحرفي وجعلوا منه راعي غنم.
*12* يُحرّم على الصابئة أكل زبدة غير تلك الّتي يعدّونها بأنفسهم وبما أنهم يكثرون من استعمال هذه المادّة، فإنّهم يسعون إلى يومنا هذا إلى تربية الجواميس والبقر (رغم أنّهم لا يأكلون لحومها لأنّها محرّمة عليهم) بسبب كميّة اللّبن الهامّة الّتي توفّرها لهم.
*13*الأبيض هو اللّون المفضّل عند الصّابئة. ويجب على الصّابئي التقيّ الامتناع عن الملاببس غير البيضاء والتزيّن بالحليّ.
*14* الحزن محرّم على الصّابئة، وهو من علامات عدم التّقوى.
*15* أي "الكنز العظيم" وفيه ذكر لواجبات الصّابئة والعقوبات الّتي تُسَلّط على من لا يعمل بها.
*16* يفضّل الصّابئة أن يبدؤوا نسخ كتبهم إمّا يوم الأحد أو يوم الخميس، فهما اليومان المقدّسان عندهم.
*17* معظم المخطوطات المكتوبة بالعربيّة أو التّركيّة سواء تلك التي أمتلكها أو التي عاينتها، تحمل اسم النّاسخ، وسنة الانتهاء من النّسخ، وأحيانا الشّهر.
*18* حفظ العرب المسلمون الّذين يسكنون بلاد الصّابئة الكلمات الّتي ذكرت بلغة الصابئة. ويستغلّونها في بعض المناسبات للسخرية من جيرانهم أو مداعبتهم فيقولون لهم: «أي شِشْتُرويو بَغْيونو» فقد «كان أبو الفرج نفسه بينكم لكنّكم عوض أن تستقبلوه الاستقبال الّذي يستحق كلّفتموه برعاية الأنعام كما لو كان مجرّد راعٍ».
(19) صابئة الأهواز يعيشون إلى اليوم حول نهر كارون في سلام مع عرب إيران من الشيعة أساسا.
*20* يعتبر المسلمون شتم النبيّ محمّد جريمة لا تغتفر ولا يمحوها إلاّ القتل.
*21* قال لي معلّمي أن جَدَّه لأبيه واسمه «الشّيخ بُولاَدْ» كان يُعَدّ من الشَّكِنْدُهْ.
*22* كانت تسمّى سابقا "سوق النّواشي" وهي الآن مدينة تعدّ ثلاثة أو أربعة آلاف نسمة وتقع على الفرات على مسافة ست ساعات بالمركب من النقطة الّتي يلتقي فيها هذا النّهر بدجلة مكوّنا شطّ العرب.
*23* لتكريس ترميذه يتوجب اجتماع أربعة اشكندات، ولتكريس اشكنده يكفي ترميذه واحد.
*24* لتكريس كزنفره يتوجب اجتماع أربعة تراميذ.
*25* قال لي معلّمي إنّ الصابئة حسب ما جاء في كتبهم سيضطرّون في المستقبل إلى تحمّل مآسي كبرى، وسيأتي يوم يُحرمون فيه من رجال دين، وعددهم اليوم [عند وضع كتاب سيوفي] لا يتجاوز ألفا وخمسمائة نسمة (رجال وأولاد دون احتساب النّساء والبنات) وأنه سيكون هناك نقص كبير حتّى أنّه لن يبقى منهم إلاّ عدد ضئيل إلى حين مجيء "ياور زيوا".
زيكو-
عدد المساهمات : 18
تاريخ الميلاد : 25/03/1989
تاريخ التسجيل : 26/03/2010
الموقع : فنرتوب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى